سيدنا أدم أبو البشرية "الجزء الثاني "
صفحة 1 من اصل 1
سيدنا أدم أبو البشرية "الجزء الثاني "
والآن بعد أن علم آدم من أسماء الله الحُسنى ما علم، أراد تعالى أن يُبيِّن للملائكة الذين طلبوا الخلافة لأنفسهم منزلة آدم عليه السلام وأنَّه حقيق بأن يتسنَّم هذا المقام وبأن يكون لهم إماماً يدخلون بمعيَّته على الله. ولذلك أمر آدم عليه السلام أن يعرض عليهم أسماء الله تعالى ويسألهم عنها. وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكةِ..}: أي أنَّ عرض الأسماء كان بواسطة آدم على الملائكة.
ثم أجرى تعالى المناقشة بين آدم والملائكة، إذ أُمرعليه السلام أن يسأل الملائكة عمّا ينطوي تحت هذه الأسماء الحُسنى من معانٍ، وسأل آدم عليه السلام عن اسم الله تعالى الرّحمن وعن اسمه القادر وعن اسمه الحكيم وإلى غير ذلك من الأسماء الحُسنى وطلب منهم أن يُنبؤوه عمّا عرفوا عن هذه الأسماء أي عمّا شاهدوه من رحمة الله وقدرته وحكمته وغير ذلك ممَّا ينطوي تحت الأسماء الحُسنى من المعاني السامية التي لا يعرفها إلاَّ من كان له إقبال على خالقه.
وإلى هذه المناقشة بين آدم وبين الملائكة تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..أنبِئونِي بِأسمَاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}: أي أنَّ الله تعالى أمرهم أن يبيِّنوا ما عندهم من المعرفة عن كل اسم من هؤلاء الأسماء الحُسنى التي عرضها عليهم آدم ، فإن كانوا صادقين في أنَّهم أهل للخلافة سبقوا آدم في البيان فإنَّ الخلافة لا تُعطى جزافاً إنَّما تُعطى لمن عرف أسماء الله تعالى الحُسنى معرفةً عالية فاق بها غيره وبزَّ بها وسبق كلَّ من عاصره فإن هو بلغ هذه المعرفة العالية كان حقيقاً بذلك المقام مقام الخلافة.
هنالك أجاب الملائكة، كل واحد منهم جواباً متناسباً مع إقباله على الله وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لا عِلمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ}. أي أنهم خاطبوا ربهم قائلين: {سُبْحَانَكَ} أي: ما أعظم كمالك!. لقد أجبنا بحسب ما علمناه بإقبالنا عليك و {أنتَ العَلِيمُ}: بحال كل واحدٍ منَّا وبدرجة إقباله وأنتَ {الحَكِيمُ}: الذي تكشف لكل مخلوق عن المعرفة بحسب ما تراه منه من صدقٍ وإقبال.
وبعد أن بيَّن الملائكة ما عرفوه عن أسماء الله أراد تعالى أن يُريهم معرفة آدم التي سبقهم بها وأنه عليه السلام حقيق بمقام الخلافة ولذلك أمره أن يُبيّن لهم بدوره فيتكلَّم ويُنبِّئهم عن أسمائهم أي عن أسماء الله تعالى الحُسنى التي كانوا قد تحدثوا عنها آنفاً، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ يا آدَمُ أَنبِئهُم بِأسمَائِهمْ..}: أي تكلَّم أنت لهم عن الأسماء الحُسنى التي كانوا شرحوها وتكلَّموا عنها.
هنالك أخ ذ آدم يُبدي ما لديه من المعرفة عن أسماء الله تعالى تلك المعرفة العالية التي توصَّل إليها بإقباله العظيم، وبيَّن آدم عليه السلام بياناً وتكلَّم عن أسماء الله الحُسنى وعمَّا ينطوي تحتها من كماله تعالى كلاماً سبق به الملائكة جميعاً وهنالك خاطبهم ربهم مبيِّناً لهم أنه لم يُعطِ آدمَ ذلك المقام جزافاً إنَّما عطاؤه له بحسب ما علمه فيه من سبق في مضمار الحُب والإقبال. وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..فلَمَّا أَنبَأَهُم بأَسْمَائِهِمْ..} أي: فلمَّا بيَّن آدم للملائكة عن تلك الأسماء الحُسنى ما بيَّن وظهر تفوُّقه عليهم عند ذلك خاطبهم ربهم بما تُشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {..أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ..}.
ثم بيَّن تعالى أنه عليم بما في نفوسهم من قبل أن يبدوا ذلك ويُبيِّنوه فقال تعالى: {..وَأَعلَمُ مَا تُبْدونَ وَمَا كُنتُم تَكْتُمُونَ}: أي وأعلم ما تُبدون الآن من الإقرار بالحق وما كنتم تكتمون من طلب الخلافة لأنفسكم.
أقول: وهذا الخطاب الذي جرى بين الله تعالى وملائكته ممَّا تُشير إليه كلمة (قالوا) حينما يكون الكلام عن الملائكة وكلمة (قال) حينما يُشير الكلام إلى قوله تعالى، كل هذا القول إنَّما كان قولاً نفسيّاً، فقد قال الملائكة ذلك في أنفسهم كما سمعوا الجواب عليه في سرِّهم فكلما سألوا في أنفسهم سؤالاً ألقى الله تعالى في نفوسهم جواب ذلك السؤال.
ونعود الآن إلى القصة التي نحن بصددها فنقول:
لمَّا ظهر للملائكة سبق آدم عليه السلام وتفوقه عليهم في المعرفة والإقبال على الله هنالك أمرهم الله تعالى أن يقبلوا عليه بصحبته e صحبة آدم فيتخذوه سراجاً منيراً لنفوسهم وإماماً لهم في إقبالهم على خالقهم وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {وإِذْ قُلْنَا للمَلائكةِ اسْجُدُوا لآدَمَ..}.
وليس المراد من السجود انحناء الرأس أو وضع الجبهة والكفين والقدمين على الأرض كما يفهمه العامة من الناس، فإن هذا الوضع الجسدي هو في الحقيقة رمز وتعبير لسجود النفس، وسجود النفس هو تقديرها لصاحب الفضل وطلبها حاجتها منه.
فإذا سجد أحدنا في صلاته فمعنى ذلك أنه يقدِّر فضل خالقه عليه في دلالته إيَّاه وهدايته إلى ما فيه خيره وسعادته كما يطلب منه المعونة والإمداد بالقوة على تطبيق تلك الدلالة السامية التي أمره بها عقب قراءة الفاتحة. وما سجود الملائكة لآدم إلاَّ تقديرهم وخضوعهم النفسي لمقام هذا الرسول الكريم وطلبهم الإقبال بمعيَّته على الخالق العظيم، لأن الأدنى إذا ارتبطت نفسه بالأعلى وأقبلت بصحبته على الله تعالى فهنالك ينعكس فيها ما ارتسم في نفس من ارتبطت به من حبٍّ لله ومعرفة به وإقبال عليه وعندئذٍ تزداد بهذا الارتباط حبّاً ومعرفة وإقبالاً لحظةً فلحظة وآناً فآناً وتلك هي حقيقة الشفاعة شفاعة ارتباط نفس بنفس وصحبتها معاً في طريق إقبالها على الله ليسمو القوي بالضعيف وينهض الأعلى صَعَداً بالأدنى ويعرج به في معارج القدس والكمال كما عرجت نفس الرسول محمَّد عليه الصلاة والسلام بنفوس الرُسل الكرام ليلة الإسراء. وكذلك الملائكة حينما أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم ارتبطت نفوسهم مستشفعة به عارجة بمعيَّته في إقبالها على الله. وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَسَجَدُواْ}.
نعم.. سجد الملائكة كلُّهم كما يُشير القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: {فَسَجدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} وامتنع إبليس عن السجود وأبى واستكبر. أي وجد في نفسه إباءً عن طاعة الله واستعلاءً عن السير بصحبة هذا الرسول الكريم.
وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..فَسَجَدُوا إلاَّ إبلِيسَ أبَى واستَكْبَرَ..}. وقد بيَّن لنا تعالى سبب إباء إبليس واستكباره لنتوقَّى ذلك نحن ويكون لنا منه درس بليغ فقال تعالى: {..وَكَانَ مِنَ الكَافِرِين} أي: إن كفر إبليس هو الذي جعله يأبى ويستكبر.
وكلمة (كَانَ) تفيد أنَّ إبليس كان كافراً من قبل أن يأمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم . وأمَّا كلمة (مِنَ الكَافِرِينَ) فمعناها من المنكرين نعمة الخالق وغير المقدِّرين لفضل الله لأن الكفر هو نُكران النعمة والإعراض عن المحسن وعدم تقدير فضله، وليس هو نكران وجود الخالق ولا عدم الاعتراف به. والآيات التالية تُشير إلى هذا المعنى وتبيِّن لنا اعتراف إبليس بربِّه وإقراره بخالقه، فمن ذلك قوله تعالى: {..فَسَجدُوا إلاَّ إبلِيسَ قَالَ ءَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}.
{..قَالَ أَناْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني مِن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ}.
{قَالَ رَبّ فَأنظِرني إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. فإبليس كما يظهر لنا من هذه الآيات وغيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم، مُقرٌّ بالأصل بوجود الخالق معترف بربِّه غير أنه ليس في نفسه تقدير لفضل الله ونعمته، وليس له إقبال على خالقه ولا معرفة بكماله ولا ميل إليه. أقول: ومن هنا يتبيَّن لنا أنَّ الإنسان إذا هو لم يفكِّر في نعمة الخالق ولم يرَ فضل الله عليه فليس بمؤمن حقّاً وإن كان مقرّاً ومعترفاً بخالقه وهو لا يستطيع أن يعرف مقام الرُسل الكرام ولا يمكن لنفسه أن ترتبط بهم ولا أن تدخل بصحبتهم على الله بل يظل مطروداً بعيداً عنهم بعيداً عن الله.
ونستطيع هنا وبالاستناد إلى الآيات السابقة أن نرد كثيراً من المزاعم الخاطئة التي يزعمها فريق من الناس إذ يقولون أنَّ إبليس كان رئيس الملائكة وكان شديد العبادة لربه، وإنه لم يترك بقعة في السماء إلاَّ سجد فيها. ومع ذلك بلحظة واحدة حبطت أعماله كلها، فهم يزعمون هذه المزاعم ويُريدون من وراء ذلك أن يُلقوا الشك في قلوب الناس بعدالة الله وأن يجعلوهم دوماً غير مطمئنين لما يقدِّمون من صالح الأعمال.
فهذه المزاعم كلها مخالفة لصريح القرآن، فإبليس كما رأينا لم يكن مقبلاً على خالقه، ولم يسجد له سجدة واحدة بل كان من الكافرين. وإبليس ليس من الملائكة بل هو من الجن، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..فَسَجَدُوا إلاَّ إبلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمرِ رَبِهِ..}. وبعد أن أظهر الله تعالى للملائكة تفوق آدم عليهم في علمه ومعرفته بكمال ربِّه أراد تعالى أن يُريهم سبقه إياهم في حبِّه لخالقه.
وبياناً لمقام آدم بالنسبة للملائكة في حبِّه لربِّه وتقريباً للحقيقة من الأذهان نقدِّم المثال الآتي فنقول:
هّبْ أن أُمّاً أوصت ولديها الصغيرين بأن لا يركضا في صحن الدار مخافة أن يُصابا بأذى وفي يومٍ عادت الأم بعد غياب طويل، فما أن رآها أحدهما حتى هرع إليها وأنساه حبُّه إيَّاها أمرها فهوى ساقطاً على الأرض أمَّا الآخر فذكر أمر أمه وتحذيرها فلم يهرع إليها كما هرع الأول. ترى أي الولدين أشد حبّاً لأمِّه؟. أليس الذي أنساه حبُّه إيَّاها أوامرها هو الأكثر ارتباطاً والأشد حبّاً لها؟.
أقول: وكذلك الملائكة الكرام علم الله تعالى منهم أنه مهما بلغ أحدهم في المحبة فليس يصل لدرجة يُنسيه معها حبُّه لخالقه أوامره بخلاف آدم فقد سبقهم في هذا المضمار سبقاً لا يدانونه فيه.
يتبع ,,,
ثم أجرى تعالى المناقشة بين آدم والملائكة، إذ أُمرعليه السلام أن يسأل الملائكة عمّا ينطوي تحت هذه الأسماء الحُسنى من معانٍ، وسأل آدم عليه السلام عن اسم الله تعالى الرّحمن وعن اسمه القادر وعن اسمه الحكيم وإلى غير ذلك من الأسماء الحُسنى وطلب منهم أن يُنبؤوه عمّا عرفوا عن هذه الأسماء أي عمّا شاهدوه من رحمة الله وقدرته وحكمته وغير ذلك ممَّا ينطوي تحت الأسماء الحُسنى من المعاني السامية التي لا يعرفها إلاَّ من كان له إقبال على خالقه.
وإلى هذه المناقشة بين آدم وبين الملائكة تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..أنبِئونِي بِأسمَاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}: أي أنَّ الله تعالى أمرهم أن يبيِّنوا ما عندهم من المعرفة عن كل اسم من هؤلاء الأسماء الحُسنى التي عرضها عليهم آدم ، فإن كانوا صادقين في أنَّهم أهل للخلافة سبقوا آدم في البيان فإنَّ الخلافة لا تُعطى جزافاً إنَّما تُعطى لمن عرف أسماء الله تعالى الحُسنى معرفةً عالية فاق بها غيره وبزَّ بها وسبق كلَّ من عاصره فإن هو بلغ هذه المعرفة العالية كان حقيقاً بذلك المقام مقام الخلافة.
هنالك أجاب الملائكة، كل واحد منهم جواباً متناسباً مع إقباله على الله وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لا عِلمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ}. أي أنهم خاطبوا ربهم قائلين: {سُبْحَانَكَ} أي: ما أعظم كمالك!. لقد أجبنا بحسب ما علمناه بإقبالنا عليك و {أنتَ العَلِيمُ}: بحال كل واحدٍ منَّا وبدرجة إقباله وأنتَ {الحَكِيمُ}: الذي تكشف لكل مخلوق عن المعرفة بحسب ما تراه منه من صدقٍ وإقبال.
وبعد أن بيَّن الملائكة ما عرفوه عن أسماء الله أراد تعالى أن يُريهم معرفة آدم التي سبقهم بها وأنه عليه السلام حقيق بمقام الخلافة ولذلك أمره أن يُبيّن لهم بدوره فيتكلَّم ويُنبِّئهم عن أسمائهم أي عن أسماء الله تعالى الحُسنى التي كانوا قد تحدثوا عنها آنفاً، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ يا آدَمُ أَنبِئهُم بِأسمَائِهمْ..}: أي تكلَّم أنت لهم عن الأسماء الحُسنى التي كانوا شرحوها وتكلَّموا عنها.
هنالك أخ ذ آدم يُبدي ما لديه من المعرفة عن أسماء الله تعالى تلك المعرفة العالية التي توصَّل إليها بإقباله العظيم، وبيَّن آدم عليه السلام بياناً وتكلَّم عن أسماء الله الحُسنى وعمَّا ينطوي تحتها من كماله تعالى كلاماً سبق به الملائكة جميعاً وهنالك خاطبهم ربهم مبيِّناً لهم أنه لم يُعطِ آدمَ ذلك المقام جزافاً إنَّما عطاؤه له بحسب ما علمه فيه من سبق في مضمار الحُب والإقبال. وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..فلَمَّا أَنبَأَهُم بأَسْمَائِهِمْ..} أي: فلمَّا بيَّن آدم للملائكة عن تلك الأسماء الحُسنى ما بيَّن وظهر تفوُّقه عليهم عند ذلك خاطبهم ربهم بما تُشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {..أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ..}.
ثم بيَّن تعالى أنه عليم بما في نفوسهم من قبل أن يبدوا ذلك ويُبيِّنوه فقال تعالى: {..وَأَعلَمُ مَا تُبْدونَ وَمَا كُنتُم تَكْتُمُونَ}: أي وأعلم ما تُبدون الآن من الإقرار بالحق وما كنتم تكتمون من طلب الخلافة لأنفسكم.
أقول: وهذا الخطاب الذي جرى بين الله تعالى وملائكته ممَّا تُشير إليه كلمة (قالوا) حينما يكون الكلام عن الملائكة وكلمة (قال) حينما يُشير الكلام إلى قوله تعالى، كل هذا القول إنَّما كان قولاً نفسيّاً، فقد قال الملائكة ذلك في أنفسهم كما سمعوا الجواب عليه في سرِّهم فكلما سألوا في أنفسهم سؤالاً ألقى الله تعالى في نفوسهم جواب ذلك السؤال.
ونعود الآن إلى القصة التي نحن بصددها فنقول:
لمَّا ظهر للملائكة سبق آدم عليه السلام وتفوقه عليهم في المعرفة والإقبال على الله هنالك أمرهم الله تعالى أن يقبلوا عليه بصحبته e صحبة آدم فيتخذوه سراجاً منيراً لنفوسهم وإماماً لهم في إقبالهم على خالقهم وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {وإِذْ قُلْنَا للمَلائكةِ اسْجُدُوا لآدَمَ..}.
وليس المراد من السجود انحناء الرأس أو وضع الجبهة والكفين والقدمين على الأرض كما يفهمه العامة من الناس، فإن هذا الوضع الجسدي هو في الحقيقة رمز وتعبير لسجود النفس، وسجود النفس هو تقديرها لصاحب الفضل وطلبها حاجتها منه.
فإذا سجد أحدنا في صلاته فمعنى ذلك أنه يقدِّر فضل خالقه عليه في دلالته إيَّاه وهدايته إلى ما فيه خيره وسعادته كما يطلب منه المعونة والإمداد بالقوة على تطبيق تلك الدلالة السامية التي أمره بها عقب قراءة الفاتحة. وما سجود الملائكة لآدم إلاَّ تقديرهم وخضوعهم النفسي لمقام هذا الرسول الكريم وطلبهم الإقبال بمعيَّته على الخالق العظيم، لأن الأدنى إذا ارتبطت نفسه بالأعلى وأقبلت بصحبته على الله تعالى فهنالك ينعكس فيها ما ارتسم في نفس من ارتبطت به من حبٍّ لله ومعرفة به وإقبال عليه وعندئذٍ تزداد بهذا الارتباط حبّاً ومعرفة وإقبالاً لحظةً فلحظة وآناً فآناً وتلك هي حقيقة الشفاعة شفاعة ارتباط نفس بنفس وصحبتها معاً في طريق إقبالها على الله ليسمو القوي بالضعيف وينهض الأعلى صَعَداً بالأدنى ويعرج به في معارج القدس والكمال كما عرجت نفس الرسول محمَّد عليه الصلاة والسلام بنفوس الرُسل الكرام ليلة الإسراء. وكذلك الملائكة حينما أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم ارتبطت نفوسهم مستشفعة به عارجة بمعيَّته في إقبالها على الله. وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَسَجَدُواْ}.
نعم.. سجد الملائكة كلُّهم كما يُشير القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: {فَسَجدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} وامتنع إبليس عن السجود وأبى واستكبر. أي وجد في نفسه إباءً عن طاعة الله واستعلاءً عن السير بصحبة هذا الرسول الكريم.
وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..فَسَجَدُوا إلاَّ إبلِيسَ أبَى واستَكْبَرَ..}. وقد بيَّن لنا تعالى سبب إباء إبليس واستكباره لنتوقَّى ذلك نحن ويكون لنا منه درس بليغ فقال تعالى: {..وَكَانَ مِنَ الكَافِرِين} أي: إن كفر إبليس هو الذي جعله يأبى ويستكبر.
وكلمة (كَانَ) تفيد أنَّ إبليس كان كافراً من قبل أن يأمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم . وأمَّا كلمة (مِنَ الكَافِرِينَ) فمعناها من المنكرين نعمة الخالق وغير المقدِّرين لفضل الله لأن الكفر هو نُكران النعمة والإعراض عن المحسن وعدم تقدير فضله، وليس هو نكران وجود الخالق ولا عدم الاعتراف به. والآيات التالية تُشير إلى هذا المعنى وتبيِّن لنا اعتراف إبليس بربِّه وإقراره بخالقه، فمن ذلك قوله تعالى: {..فَسَجدُوا إلاَّ إبلِيسَ قَالَ ءَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}.
{..قَالَ أَناْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني مِن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ}.
{قَالَ رَبّ فَأنظِرني إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. فإبليس كما يظهر لنا من هذه الآيات وغيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم، مُقرٌّ بالأصل بوجود الخالق معترف بربِّه غير أنه ليس في نفسه تقدير لفضل الله ونعمته، وليس له إقبال على خالقه ولا معرفة بكماله ولا ميل إليه. أقول: ومن هنا يتبيَّن لنا أنَّ الإنسان إذا هو لم يفكِّر في نعمة الخالق ولم يرَ فضل الله عليه فليس بمؤمن حقّاً وإن كان مقرّاً ومعترفاً بخالقه وهو لا يستطيع أن يعرف مقام الرُسل الكرام ولا يمكن لنفسه أن ترتبط بهم ولا أن تدخل بصحبتهم على الله بل يظل مطروداً بعيداً عنهم بعيداً عن الله.
ونستطيع هنا وبالاستناد إلى الآيات السابقة أن نرد كثيراً من المزاعم الخاطئة التي يزعمها فريق من الناس إذ يقولون أنَّ إبليس كان رئيس الملائكة وكان شديد العبادة لربه، وإنه لم يترك بقعة في السماء إلاَّ سجد فيها. ومع ذلك بلحظة واحدة حبطت أعماله كلها، فهم يزعمون هذه المزاعم ويُريدون من وراء ذلك أن يُلقوا الشك في قلوب الناس بعدالة الله وأن يجعلوهم دوماً غير مطمئنين لما يقدِّمون من صالح الأعمال.
فهذه المزاعم كلها مخالفة لصريح القرآن، فإبليس كما رأينا لم يكن مقبلاً على خالقه، ولم يسجد له سجدة واحدة بل كان من الكافرين. وإبليس ليس من الملائكة بل هو من الجن، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {..فَسَجَدُوا إلاَّ إبلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمرِ رَبِهِ..}. وبعد أن أظهر الله تعالى للملائكة تفوق آدم عليهم في علمه ومعرفته بكمال ربِّه أراد تعالى أن يُريهم سبقه إياهم في حبِّه لخالقه.
وبياناً لمقام آدم بالنسبة للملائكة في حبِّه لربِّه وتقريباً للحقيقة من الأذهان نقدِّم المثال الآتي فنقول:
هّبْ أن أُمّاً أوصت ولديها الصغيرين بأن لا يركضا في صحن الدار مخافة أن يُصابا بأذى وفي يومٍ عادت الأم بعد غياب طويل، فما أن رآها أحدهما حتى هرع إليها وأنساه حبُّه إيَّاها أمرها فهوى ساقطاً على الأرض أمَّا الآخر فذكر أمر أمه وتحذيرها فلم يهرع إليها كما هرع الأول. ترى أي الولدين أشد حبّاً لأمِّه؟. أليس الذي أنساه حبُّه إيَّاها أوامرها هو الأكثر ارتباطاً والأشد حبّاً لها؟.
أقول: وكذلك الملائكة الكرام علم الله تعالى منهم أنه مهما بلغ أحدهم في المحبة فليس يصل لدرجة يُنسيه معها حبُّه لخالقه أوامره بخلاف آدم فقد سبقهم في هذا المضمار سبقاً لا يدانونه فيه.
يتبع ,,,
naqep- مشرف قسم قصص الأنبياء والمرسلين
- عدد المساهمات : 234
تاريخ التسجيل : 01/10/2011
الموقع : ياقارئ خطي لاتبكي علي موتي فاليوم انا معك وغدا في التراب'ويامارا ع قبري لاتعجب من أمري بالأمس كنت معك وغدا انت معي'أموت ويبقى كل مانشرته ذكرى'فياليت كل من قرأ خطي دعالي
مواضيع مماثلة
» سيدنا ادم "الجزء الرابع "
» سيدنا ادم أبو البشر "الجزء الأول"
» سيدنا أدم أبو البشر"الجزء الثالث"إ
» الصوفية من هم ؟ الجزء الثاني
» العلوية (النصيرية)الجزء الثاني
» سيدنا ادم أبو البشر "الجزء الأول"
» سيدنا أدم أبو البشر"الجزء الثالث"إ
» الصوفية من هم ؟ الجزء الثاني
» العلوية (النصيرية)الجزء الثاني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى